فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَمنْ ءاياته} الدَّالَّة على ما ذُكر من البعث وما بعده من الجزاء {أَنْ خَلَقَ لَكُم} أي لأجلكم {مّنْ أَنفُسكُمْ أزواجا} فإنَّ خلق أصل أزواجكم حواءَ من ضلَع آدمَ عليه السَّلام متضمن لخلقهنَّ من أنفسكم على ما عرفته من التَّحقيق أو من جنسكم لا من جنسٍ آخرَ وهو الأوفقُ لقوله تعالى: {لّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} أي لتألفُوها وتميلُوا إليها وتطمئنُّوا بها فإنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي التَّضامّ والتَعارف كما أنَّ المخالفةَ من أسباب التفرُّق والتَّنافر {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} أي بين الأزواج إنَّا على تغليب الرّجال على النّساء في الخطاب أو على حذف ظرفٍ معطوفٍ على الظَّرف المذكُور أي جعل بينكم وبينهنَّ كما مرَّ في قوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُله} وقيل: أو بين أفراد الجنس أي بينَ الرّجال والنّساء ويأباهُ قولُه تعالى: {مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإنَّ المرادَ بهما ما كان منهما بعصمة الزَّواج قطعًا أي جعلَ بينكم بالزَّواج الذي شرعَه لكم توادًَّا وتراحُمًا من غير أنْ يكونَ بينكم سابقةُ معرفةٍ ولا رابطةٌ مصحّحةٌ للتَّعاطف من قرابةٍ أو رحمٍ قيل المودَّةُ والرَّحمةُ من قبل الله تعالى، والفَرْك من الشَّيطان. وَعَن الحَسَن رَحمَهُ الله: المَودَّةُ كنايةٌ عن الجمَاع، وَالرَّحمةُ عَن الولد كما قال تعالى {ورحمةً منا} {إنَّ في ذَلكَ} أيْ فيما ذُكر من خلقهم من تُرابٍ وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودَّة والرَّحمة بينهم. وما فيه من مَعنْى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببُعد منزلته {لاَيَاتٍ} عظيمةً لا يُكْتَنَهُ كُنْهُها كثيرةً لا يُقَادر قَدْرُها {لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم البالغة. والجُملة تذييلٌ مقررٌ لمضمون ما قبله مع التنبيه على أنَّ ما ذُكر ليس بآيةٍ فذَّةٍ كما يُنبىء عنه قولُه تعالى: ومن آياته بل هي مشتملةٌ على آياتٍ شتَّى.
{وَمنْ ءاياته} الدَّالَّة على ما ذُكر من أمر البعث وما يتلُوه من الجزاء {خُلقَ السموات والأرض} إما من حيثُ إنَّ القادرَ على خلقهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادَّة مستعدة لها أظهرُ قدرة على إعادة ما كان حيًَّا قبل ذلك وإمَّا منْ حيثُ إنَّ خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاش البشر ومعاده كما يُفصح عنه قولُه تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَميعًا}.
وقولُه تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض في ستَّة أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {واختلاف أَلْسنَتكُمْ} أي لغاتكم بأنْ علَّم كلَّ صنفٍ لغتَهُ وألهمه وضعَها وأقدرَه عليها، أو أجناس نُطفكم وأشكاله فإنَّك لا تكادُ تسمعُ منطقين متساويين في الكيفيَّة من كلّ وجهٍ {وألوانكم} ببياض الجلد وسواده وتوسطه فيما بينهما أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحُلاها بحيثُ وقعَ بها التمايزُ بين الأشخاس حتَّى إنَّ التَّوأمين مع توافق موادّهما وأسبابهما والأمور المتلاقية لهما في التَّخليق يختلفان في شيءٍ من ذلك لا محالَة وإنْ كانا في غاية التَّشابه وإنَّما نُظمَ هذا في سلك الآيات الآفاقية من خلق السَّموات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقية بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهُّم كونه من تتمَّات خلقهم {إنَّ في ذَلكَ} أي فيما ذُكر من خلق السَّموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان {لآَيَاتٍ} عظيمةً في أنفسها كثيرةً في عددها {للعالمين} أي المتَّصفين بالعلم كما في قوله تعالى: {وَمَا يَعْقلُهَا إلاَّ العالمون} وقُرئ بفتح اللام وفيه دلالةٌ على كمال وضوح الآيات وعدم خفائها على أحدٍ من الخلق كافَّة.
{وَمنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار} لاستراحة القوى النَّفسانية وتقوّي القُوى الطَّبيعية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمنْ ءاياته} الدالة على البعث أيضًا {أَنْ خَلَقَ لَكُم} أي لأجلكم {مّنْ أَنفُسكُمْ أزواجا} فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفت من التحقيق فمن تبعيضية والأنفس بمعناها الحقيقي، ويجوز أن تكون {منْ} ابتدائية والأنفس مجاز عن الجنس أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر، قيل: وهو الأوفق بقوله تعالى: {لّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} أي لتميلوا إليها يقال: سكن إليه إذا مال فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} أي بين الأزواج إما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف على الظرف المذكور أي جعل بينكم وبينهن كما في قوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُله} [البقرة: 5 28] وقيل: بين أفراد الجنس أو بين الرجال والنساء، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: {مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعًا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادًا وترحمًا من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة ولا مرابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم قيل: المودة والرحمة من الله تعالى والفرك وهو بغض أحد الزوجين الآخر من الشيطان.
وقال الحسن ومجاهد وعكرمة المودة كناية عن النكاح والرحمة كناية عن الولد، وكون المودة بمعنى المحبة كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر، وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له فلا يخلو عن بعد، وقيل: مودة للشابة ورحمة للعجوز، وقيل: مودة للكبير ورحمة للصغير، وقيل: هما اشتباك الرحم والكل كما ترى {إنَّ في ذَلكَ} أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة فهو إشارة إلى جميع ما تقدم، وقيل: إلى ما قبله وليس بذاك، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإشعار ببعد منزلته {لاَيَاتٍ} عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها {لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على أن ما ذكر ليس بآية فذة بل هي مشتملة على آيات شتى وأنها تحتاج إلى تفكر كما تؤذن بذلك الفاصلة.
وذكر الطيبي أنه لما كان القصد من خلق الأزواج والسكون إليها وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السموات والأرض إلا لها ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا.
{وَمنْ ءاياته خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسنَتكُمْ} أي لغاتكم بأن علم سبحانه كل صنف لغته أو ألهمه جل وعلا وضعها وأقدره عليها فصار بعض يتكلم بالعربية وبعض بالفارسية وبعض بالرومية إلى غير ذلك مما الله تعالى أعلم بكميته.
وعن وهب أن الألسنة اثنان وسبعون لسانًا في ولد حام سبعة عشر وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون، وجوز أن يراد بالألسنة أجناس النطق وأشكاله فقد اختلف ذلك اختلافًا كثيرًا فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه، ولعل هذا أولى مما تقدم.
والإمام حكى الوجه الأول وقدم عليه ما هو ظاهر في أن المراد بالألسنة الأصوات والنغم ونص على أنه أصح من المحكي {وألوانكم} بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه، فالألوان بمعنى الضروب والأنواع كما يقال: ألوان الحديث وألوان الطعام، وهذا التفسير أعم من الأول، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السموات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم {إنَّ في ذَلكَ} أي فيما ذكر من خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان {لاَيَاتٍ} عظيمة كثيرة {للعالمين} أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى: {وَمَا يَعْقلُهَا إلاَّ العالمون} [العنكبوت: 3 4] وقرأ الكثير {العالمين} بفتح اللام، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ منْ أَنْفُسكُمْ أَزْوَاجًا}.
هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزًا في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ.
وهي آية تنطوي على عدة آيات منها: أن جُعل للإنسان ناموس التناسل، وأن جُعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسًا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجًا عنيفًا أو مهلكًا كتزاوج الضفادع، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آياتتٍ عدة في قوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون} وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان: صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإيداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما.
وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين.
وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها قوله: {لكم} أي لأجل نفعكم.
و{لقوم يتفكرون} متعلق ب {آيات} لما فيه من معنى الدلالة.
وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.
والذين يتفكرون: المؤمنون وأهل الرأي من المشركين الذين يؤمنون بعد نزول هذه الآية.
والخطاب في قوله: {أن خَلَق لكم} لجميع نوع الإنسان الذكور والإناث.
والزوج: هو الذي به يصير للواحد ثانٍ فيطلق على امرأة الرجل ورجل المرأة فجعل الله لكل فرد زوجه.
ومعنى {من أنفسكم} من نوعكم، فجميع الأزواج من نوع الناس، وأما قول تأبط شرًا:
وتزوجت في الشبيبة غُولًا ** بغزال وصدقتي زقّ خمر

فمن تكاذيبهم، وكذلك ما يزعمه المشعوذون من التزوج بالجنّيات وما يزعمه أهل الخرافات والروايات من وجود بنات في البحر وأنها قد يتزوج بعض الإنس ببعضها.
والسكون: هنا مستعار للتأنس وفرح النفس لأن في ذلك زوال اضطراب الوحشة والكمد بالسكون الذي هو زوال اضطراب الجسم كما قالوا: اطمأن إلى كذا وانقطع إلى كذا.
وضمن {لتَسْكنوا} معنى لتميلوا فعدي بحرف إلى وإن كان حقه أن يعلق ب عند ونحوها من الظروف.
والمودة: المحبة، والرحمة: صفة تبعث على حسن المعاملة.
وإنما جعل في ذلك آيات كثيرة باعتبار اشتمال ذلك الخلق على دقائق كثيرة متولد بعضها عن بعض يظهرها التأمل والتدبر بحيث يتجمع منها آيات كثيرة.
واللام في قوله: {لقوم يتفكرون} معناه شبه التمليك وهو معنى أثبته صاحب مغني اللبيب ويظهر أنه واسطة بين معنى التمليك ومعنى التعليل.
ومثَّله في المغني بقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} [النحل: 72] وذكر في المعنى العشرين من معاني اللام أن ابن مالك في كافيته سماه لام التعدية ولعله يريد تعدية خاصة، ومثله بقوله تعالى: {فهبْ لي من لدنك وليًّا} [مريم: 5].
{وَمنْ آيَاته خَلْقُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتلَافُ أَلْسنَتكُمْ وَأَلْوَانكُمْ}.
هذه الآية الثالثة وهي آية النظام الأرضي في خلق الأرض بمجموعها وسكانها؛ فخلقُ السماوات والأرض آية عظيمة مشهودة بما فيها من تصاريف الأجرام السماوية والأرضية، وما هو محل العبرة من أحوالهما المتقاربة المتلازمة كالليل والنهار والفصول، والمتضادة كالعُلّو والانخفاض.
وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات، وخُص من أحواله المتخالفة لأنها أشد عبرة إذ كان فيها اختلاف بين أشياء متحدة في الماهية، ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد نَجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض، فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مسامته أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خلق السماوات والأرض.
ولذلك فالظاهر أن المقصود هو آية اختلاف اللغات والألوان وأن ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض.
وقد كانت هذه الآية متعلقة بأحوالٍ عرضية في الإنسان ملازمة له فبتلك الملازمة أشبهت الأحوال الذاتية المطلقة ثم النسبية، فلذلك ذكرت هذه الآية عقب الآيتين السابقتين حسب الترتيب السابق.
وقد ظهر وجه المقارنة بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف ألسن البشر وألوانهم، وتقدم في سورة آل عمران (190) قوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} والألسنة: جمع لسان، وهو يطلق على اللغة كما في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] وقوله: {لسان الذي يُلْحدون إليه أعجمي} [النحل: 103].
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة.
فلا شك أن اللغة كانت واحدة للبشر حين كانوا في مكان واحد، وما اختلفت اللغات إلا بانتشار قبائل البشر في المواطن المتباعدة، وتطرَّق التغير إلى لغاتهم تطرقًا تدريجيًا؛ على أن توسُّع اللغات بتوسع الحاجة إلى التعبير عن أشياء لم يكن للتعبير عنها حاجة قد أوجب اختلافًا في وضع الأسماء لها فاختلفت اللغات بذلك في جوهرها كما اختلفت فيما كان متفقًا عليه بينها باختلاف لهجات النطق، واختلاف التصرف، فكان لاختلاف الألسنة موجبان.
فمحل العبرة هو اختلاف اللغات مع اتحاد أصل النوع كقوله تعالى: {يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} [الرعد: 4] ولما في ذلك الاختلاف من الأسرار المقتضية إياه.
ووقع في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين ما يوهم ظاهره أن اختلاف الألسن حصل دفعة واحدة بعد الطوفان في أرض بابل وأن البشر تفرقوا بعد ذلك.
والظاهر أنه وقع في العبارة تقديم وتأخير وأن التفرق وقع قبل تبلبل الألسن.
وقد علل في ذلك الإصحاح بما ينزه الله عن مدلوله.
وقيل: أراد باختلاف الألسنة اختلاف الأصوات بحيث تتمايز أصوات الناس المتكلمين بلغة واحدة فنعرف صاحب الصوت وإن كان غير مرئي.
وأما اختلاف ألوان البشر فهو آية أيضًا لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم، وله لون واحد لا محالة، ولعله البياض المشوب بحمرة، فلما تعدد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة، ومنها التوالد من أبوين مختلفي اللون مثل المتولد من أم سوداء وأب أبيض، ومنها العلل والأمراض التي تؤثر تلوينًا في الجلد، ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلًا على اختلاف النوع بل هو نواع واحد، فللبشر ألوان كثيرة أصلاها البياض والسواد، وقد أشار إلى هذا أبو علي ابن سينا في أرجوزته في الطب بقوله:
بالنزج حرّ غيَّر الأجساد ** حتى كسا بياضها سَوادا

والصقلبُ اكتسبت البياضا ** حتى غدتْ جلودها بضاضا

وكان أصل اللون البياض لأنه غير محتاج إلى علة ولأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون.
ومن البياض والسواد انشقت ألوان قبائل البشر فجاء منها اللون الأصفر واللون الأسمر واللون الأحمر.
ومن العلماء وهو كُوقْيَيْ جعل أصول ألوان البشر ثلاثة: الأبيض والأسود والأصفر، وهو لون أهل الصين.
ومنهم من زاد الأحمر وهو لون سكان قارة أمريكا الأصليين المدعوين هنود أمريكا.
واعلم أن من مجموع اختلاف اللغات واختلاف الألوان تمايزت الأجذام البشرية واتحدت مختلطات أنسابها.
وقد قسموا أجذام البشر الآن إلى ثلاثة أجذام أصلية وهي الجذم القوقاسي الأبيض، والجذم المغولي الأصفر، والجذم الحبشي الأسود، وفرعوها إلى ثمانية وهي الأبيض والأسود والحبشي والأحمر والأصفر والسَّامي والهندي والمَلاَيي نسبة إلى بلاد المَلاَيُو.
وجعل ذلك آيات في قوله: {إن في ذلك لآيات للعالمين} لما علمت من تفاصيل دلائله وعلله، أي آيات لجميع الناس، وهو نظير قوله آنفًا {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21].
واللام في قوله: {للعالمين} نظير ما تقدم في الآية قبلها.
وجعل ذلك آيات للعالمين لأنه مقرر معلوم لديهم يمكنهم الشعور بآياته بمجرد التفات الذهن دون إمعان نظر.
وقرأ الجمهور {للعالمين} بفتح اللام.
وقرأه حفص بكسر اللام أي لأولي العلم. اهـ.